vendredi 21 novembre 2014

الباحث الإعلامي عبد الرحمن عزي: الانطلاق من الذات والتفاعل مع الآخر هي الأسس التي انطلقت منها مدرسة الحتمية القيمية في الإعلام

عبد الرحمن عزي
منذ بروز وسائل الإعلام وتطور وسائل الاتصال، بذل العلماء والباحثون جهودامن أجل فهم وتفسير الظاهرة الاتصالية في محاولة للتحكم فيها والتنبؤ بتطبيقاتها وآثارها على المجتمع الحديث.
وتطور الفكر الاتصالي بعد الحرب العالمية الثانية، فأنشأت في الغرب مؤسسات جامعية  لإعداد الأطر الأكاديمية والمهنية القادرة على التعامل مع التطور التكنولوجي. وتمكنت هذه  المؤسسات من بلورة تصورات ونظريات لايزال لها تأثير جلي في الأبحاث الإعلامية ( نظرية التدفق الإعلامي على مرحلتين و تحديد الأولويات و الاستخدامات والإشباعات…).
أما في عالمنا العربي والإسلامي، فقد اكتفت الكليات والمعاهد المتخصصة في الإعلام والاتصال باستيراد هذه المفاهيم والنظريات دون الوعي بساقيه ومرجعياتها الغربية.
وهذا هو ما تنبه له المفكر الجزائري عبد الرحمن عزي الذي أسس مع ثلة من الباحثين ما أصبح يعرف بنظرية الحتمية القيمية في الإعلام.  واهتم عزي بالنظام الاجتماعي والبعد الحضاري واعتبار القيم كأساس لبناء و نجاح العملية الاتصالية.
رغم تأثر هذا المفكر بأدوات المنهجية الغربية نتيجة احتكاكه المباشر بأتباع نظريات تحديد الأولويات والاستخدامات والإشباعات والنقدية إلى جانب مدارس الفكر الاجتماعي المعاصر ( التفاعلية الرمزية والظاهرتية والبنيوية)، تحرر من البنية النظرية الاجتماعية الغربية.
بعد عودة عبد الرحمن عزي من أمريكا والبدء في التدريس الإعلامي في الجزائر، اكتشف الفراغ الذي يعتري التنظير الإعلامي والغياب شبه التام للعلاقة مع المرجعية الثقافية والحضارية الاسلامية. فقام بتقديم  المدارس الفكرية ذات الصلة بالظاهرة الاتصالية والإعلامية واستنباط الأدوات النظرية والمنهجية، بتكييفها مع الواقع العربي، وأصدر سنة 1995 كتابه الأول بعنوان” الفكر الاجتماعي المعاصر والظاهرة الإعلامية الاتصالية: بعض الأبعاد الحضارية”.
وانتقل الأستاذ عبد الرحمن عزي إلى وضع الأسس الأولية لنظريته الجديدة في الإعلام والاتصال انطلاقا من معالم تراثية. فكتب عن النظرية الاجتماعية الغربية الحديثة وابن خلدون، كما توقف عند مساهمات المفكر مالك بن نبي في دراسته عن النهوض الحضاري. وأصدر عام 2003 مؤلفه الثاني بعنوان” دراسات في نظرية الاتصال: نحو فكر إعلامي متميز”.
وللتعرف أكثر على فكر عبد الرحمن عزي وتصوره للظاهرة الاتصالية في العالم العربي والاسلامي، أجرينا معه هذا الحوار.
هو مفكر جزائري من مواليد 1954، لديه أكثر من مئة بحث باللغة العربية والانجليزية في الإعلام والاتصال ويعمل حاليا عميدا لكلية الاتصال في الشارقة.  تجاوزت خبرته في التدريس والبحث والإشراف 30 سنة.
عمل أﺳﺘﺎذاً ﻣﺴﺎﻋﺪاً لمدة ﺛﻼث ﺳﻨﻮات في جاﻣﻌﺔ ﺗﻜﺴﺎس اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ، ثم أستاذاً مساعداً فأستاذاً مشاركاً وأستاذاً لمدة 11 سنة بمعهد علوم الاتصال والإعلام بالجزائر، وأستاذاً لمدة ثلاث سنوات بقسم الاتصال بالجامعة الإسلامية ماليزيا، ثم أستاذاً لمدة أربع سنوات بقسم الإعلام بجامعة الملك سعود، وأستاذاً بقسم الاتصال الجماهيري بجامعة الإمارات العربية المتحدة لمدة أربع سنوات وجامعة الشارقة منذ 2006. ويعمل حاليا عميد لكلية الاتصال بالشارقة.
نشرت له في مجلات متخصصة في مجال علوم الإعلام والاتصال أكثر من 50 دراسة باللغتين العربية والإنجليزية، و ألف كتبا مهمة في المجال أهمها “الإعلام و تفكك البنيات القيمية في المنطقة العربية: قراءة معرفية في الرواسب الثقافية” الذي صدر 2009 و “حفريات في الفكر الإعلامي القيمي: مالك بن نبي، الورثيلاني، النورسي، صن تسو، ” عام 2011 و “منهجية الحتمية القيمية في الإعلام” سنة 2012 ثم “قوانين الإعلام والإعلام الاجتماعي: قراءة معرفية في النظام الأخلاقي” خلال سنة 2013.

 كثيرة هي المعاهد والجامعات المتخصصة في  علوم الاعلام والاتصال، ولكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو هل تمتلك هذه العلوم النضج الكافي معرفيا ومنهجيا لتحوز مسمى العلم كما باقي العلوم، وبما يحفظ لها استقلالا عن باقي الحقول الأخرى؟
ما يزال ينظر إلى علم الإعلام والاتصال على أنه علم “لين” (soft) وتخصص مهني إلى حد كبير. أما النضج معرفيا ومنهجيا “فمتروك” إلى حد كبير إلى الروافد المعرفية الانسانية والاجتماعية واللغوية والفلسفية ذات الصلة، أي أنه تخصص مستقل من جهة  ويتفاعل مع العلوم الأخرى من جهة أخرى، إذ أنه يلتقي مع التخصصات الأخرى نظريا ومنهجيا ويفترق عنها مهنيا وتطبيقيا تماشيا مع معادلة التوازن بين النظري والممارسة. ونظرا لأن تكنولوجيا الإعلام والاتصال تمس “الجميع” وتمتد إلى شتى المجالات،  فلم يعد الحديث عن المجال حصرا على “الخاصة” وبإمكان أيا كان ومن حقه الخوض في المجال…
أما في نظرنا، فإن النضج يحصل معرفيا ومنهجيا بمعادلة “الانطلاق من الذات والتفاعل مع الآخر”وإبراز الجانب الأخلاقي في التكوين بفعل أن الإعلام “رسالة أخلاقية”  بالدرجة الأولى.  وعليه، يمكن القول أن هذا  النضج محدود رغم كثرة الأقسام والمعاهد والكليات والكثير من هذه النماذج إما أنها تحاكي التجربة الغربية أو تخوض في السرد والوصف دون ثقل نظري معرفي أصيل متجدد ومتجاوب مع المعرفة الانسانية المعاصرة، أي أنها غير قادرة حاليا على إعادة صياغة الفرد “الإعلامي” بحيث يصبح أداة فاعلة معرفيا وثقافيا وحضاريا.
أما الاستقلالية عن العلوم الأخرى المحيطة فليس محبذا على اعتبار التداخل بين حقل الإعلام والعلوم الانسانية والاجتماعية واللغويات والفلسفة وتكنولوجيا الحاسب، الخ.  فلو عدت إلى المؤسسين الأوائل لهذا التخصص وجدتهم من حقول معرفية أخرى: “لاسويل” من العلوم السياسية، “لازرسفيلد” من علم الاجتماع، “لوين” من علم النفس الاجتماعي،” و “هوفلند” من علم النفس، و”ماكلوهان” من النقد الأدبي، و “إدوارد برناي” في مجال الزراعة،   لخ… أما من الذين انتموا للتخصص فقط فلا تذكرهم المراجع كثيرا مثل “روبرت بارك” صاحب “التاريخ الطبيعي للصحيفة” و “إيفي لي” أحد مؤسسي مجال العلاقات العامة مثلا.
ويغلب مثلما أسلفنا على هذه المعاهد (الأقسام) باستثناءات محدودة النزعة المهنية من زاوية التركيز على المهارات من كتابة وإلقاء وتقديم وتصميم وإعداد وإخراج، الخ. مع وجود مواد نظرية مرافقة من مداخل ومناهج وشيء من التنظير وقليل من التاريخ أو المحتويات ذات السياق الثقافي والاجتماعي والحضاري.وقد أثر ما تشهده المنطقة في السنوات الأخيرة من تفكك البنيات القيمية وعدم الاستقرار الاجتماعي إلى تراجع نوعية التكوين في هذه البلدان تزامنا مع التضخم في أعداد الطلبة وظهور “جيل” من “حملة الشهادات” أصحاب المعرفة “السردية” التي تنظر إلى تخصص الإعلام  بوصفه “وسيلة” وليس هدفا.
ويصعب التعميم على كل التجارب القائمة إنما يمكن بيان تنوع هذه المعاهد (الأقسام) على النحو التالي:
يأتي على قائمة هذه المعاهد أقسام الإعلام بفروع الجامعة الأمريكية في لبنان والقاهرة والشارقة، وتعتمد هذه الأخيرة على التكوين “النوعي” المستمد من التجربة “الأنجلوساكسونية” وكثيرا ما يميل التعلم فيها إلى الجانب “التقني” أو “العملي” أو المهني” دون الثقل النظري أو “الفلسفي” متأثرا بالتطور السريع في سوق العمل وتكنولوجيا الاتصال، ويتوقع عادة أن يتقلدخريجوها مراكز ريادية في قطاعات الإعلام أو تكنولوجيا  المعلومات والإدارة والعلاقات العامة والإعلانوالدوائر الحكومية وعالم الأعمال، الخ. ويأخذ على هذه التجربة نخبويتها واعتمادها على اللغة الإنجليزية دون غيرها وضالة السياق والتراث الثقافي المعرفي “الأصيل” المستمد من خصوصية المنطقة التاريخية والحضارية.
وتعد أقسام الإعلام في البلدان الخليجية (والأردنية إلى حد ما)  نموذجا آخر، و يعتمد في أسسه وبنيته التكوينية على التجربة”الأنجلوساكسونية” أيضا إذ أن العديد من القائمين على هذا التكوين خريجو الجامعات الأمريكية والبريطانية إضافة إلى وجود تنوع في أعضاء هيئة تدريس من تجارب مشابهة أو مغايرة.  ورغم أن هذه الأقسام تحاول أن تتبنى النوعية في التكوين عبر آليات الاعتماد الأكاديمي، غير أنها تشكو من قلة الصرامة العلمية والمعرفية وتدخل العوالم الثقافية التي تنحو إلى “السهولة” والاعتماد على “التلقين” والتركيز على “العلامة،” الخ. وتتميز هذه التجربة بالتطور في مجال الوسائل من مختبرات واستديوهات إذاعية (تلفزيونية) ، إلا أن الثقل المعرفي “محدود” بالمقارنة رغم أن التكوين في بعض هذه الأقسام يجعل الطالب يدرس ما يقارب 3/2 مساقات (مواد البرنامج) خارج التخصص فيما يعرف بالتعليم البيني (interdisciplinary education).
وتعد التجربة المصرية (إن صح هذا التعبير) في التكوين الأقدم والأوسع وقد ساهم الجيل الأول من روادها في تأسيس “الكتب التدريسية الجامعية” بحكم احتكاك هذه الجيل بالمدرسة الأنجلوساكسونيةووجود دور نشر متميزة، ونقلوا بذلك هذه المعارف بطريقتهم إلى المنطقة العربية. ولم يخلف هذا الجيل جيل ثاني من نفس المستوى وتوجه الكتاب الجدد إلى الجانب التجاري مما أضعف هذه التجربة وأصبحت محل نقد على ما يشهد به حال الإعلام محليا وإقليميا. ما يؤخذ على هذه التجربة اعتمادها أيضا   على “الوصف” دون الخلفية المعرفية والفلسفية. وهذه الملاحظة لا تخرج عما ذكره ابن خلدون في القرن 12 عندما ذكر بأن المشارقة يميلون في كتاباتهم إلى البلاغة والوصف بينما يعزف المغاربة عن الكتابة إلا إذا اعتقدوا أن في الأمر إضافة في التحليل أو النقد.
أما التجربة المغاربية، إن صح هذا التعبير، فمتأثرة في المنطلق بالمدرسة الفرنسيةوتميل إلى الجانب النظري و “الثقل السياسي” وربما تترفع عن الجانب الفني المهني باعتباره مجال يحصل عليه الطالب أكثر في الممارسة الميدانية. ويتفاوت درجة التوجه المهني من قسم لآخر في كل من تونس والجزائر والمغرب. ويكاد هذه المجال حاليا يفقد خصوصيته مع تزايد عدد المؤسسات الجامعية التي تطرح هذا التخصص دون توفر أعضاء هيئة تدريس ذوي المؤهلات والخبرة والبنية الوسائلية من مختبرات واستديوهات، والمصادر المعرفية والبيئة الإعلامية “النشطة والجاذبة” تماشيا مع تزايد أعداد في المجال.
وتوجد إلى هذه التجارب “التدريسية” تجربة أقسام أو كليات الدعوة والإعلام في المشرق والمغرب وتنظر إلى مجال الإعلام من زاوية تأصيلية دون الاحتكاك بالضرورة مع المفاهيم والأدوات المعرفية المفاهيمية التي أنتجتها التجربة الغربية، فهي تتحرك في دائرة خاصة ومحلية إن صح هذا التعبير رغم أن عددا من القائمين على هذا التكوين من خريجي جامعات غربية…
و يمكن أن ندخل في هذه التجارب تجربة قسم الإعلام بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا: إذ يقوم البرنامج على غرس قيم “الأصالة والمعاصرة” في التكوين بحيث يتعرض الطالب إلى الدراسات التراثية بالتزامن مع المعرفة المعاصرة باللغة الإنجليزية إضافة إلى الجوانب الفنية والتقنية في إنتاج المواد المطبوعة والمسموعة المرئية.
وباختصار، فإنه يصعب الحديث عن النضج المعرفي والمنهجي وإنما “الكل”  يخوض في المجال دون التعلق بالضرورة بالمعادلة  المتوازنة التي  ذكرتها آنفا بالضرورة، أي “الانطلاق من الذات والتفاعل مع الآخر” والتأسيس “للعقل الأخلاقي،”  وذلك من الأسس التي انطلقت منها نظرية أو مدرسة  الحتمية القيمية في الإعلام…

هل يمكن الحديث عن نظرية عامة في الإعلام والاتصال؟ وما هي أهم مقوماتها وأسسها؟
هناك نظريات بالجمع وليس بالمفرد، وهذه مستويات:أ) الكبرى(macro) أو (meta)مثل الوظيفية والبنيوية والتفاعلية الرمزية والظاهرتية والنقدية والفلسفات الأخلاقية والحتمية القيمية، وهذه لا تحضي بالعناية أو تكاد تكون غائبة في التكوين الإعلامي بحكم تشابكها وصعوبتها رغم أنها مصيرية بالأخص في الدراسات العليا، ب) المتوسطة المدى(middle-range) وهي النظريات التى تتعامل مع متغير واحد أو اثنين أو أكثر مثل تحديد الأوليات والإشاعات ودوامة الصمت والغرس الثقافي والدعاية ونظرية الإطار(framing)  و العديد منها انتقل إلى العربية مع التسطيح المصاحب لذلك. ج) الصغرى  (micro) وتخص النظريات الجزئية التي تظهر بين الحين والآخر عن حالة خاصة أو ظرفية أو تخص الاتصال في سياق محدود ومحدد بدءا من نموذج لاسويل… ولكل نظرية وخاصة الكبرى والمتوسطة المدى مقوماتها وأسسها الذي يتراوح بين المحلي والعالمي…وتعد نظرية الحتمية القيمية في الإعلام تمثل رافدا معرفيا أساسيا في فهم ظاهرة الإعلام والاتصال في المنطقة العربية والإسلامية، ومن أسسها أولية القيمي (الأخلاقي) على العوامل الأخرى في التنظير والممارسة الإعلامية. وتعد هذه النظرية معيارية (أي تدريس ما ينبغي أن يكون) وواقعية في نفس الوقت (أي دراسة واقع الإعلام في المنطقة من أبعاده القيمية والمعرفية والتاريخية والاجتماعية والحضارية)، بل يمكن اعتبارها النظرية المعرفية المعيارية الوحيدة حاليا في المنطقة، وتحمل هذه النظرية  بعدا إنسانيا معرفيا وتتقاطع في عدد من أسسها الأخلاقية مع نظرية الواجبات الضرورية للفيلسوف الألماني “كانت” ونظرية “المسؤولية الاجتماعية في الإعلام”  التي ظهرت في أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية ونظرية “أخلاق الانسان” التي طورها الأستاذكريستنزكليفورد حديثا في إطار مدرسة اخلاقيات الأعلام العالمية…
حذرتم في كتابكم “دراسات في نظرية الاتصال ” من الدراسات الميدانية في البحث العلمي في علوم الإعلام والاتصال.ما هي دواعي هذا التحذير؟
هو ليس تحذير وإنما تنبيه، ومرده أن الاعتماد على الواقع (الوضع) دون غيره في تفسير الظواهر الإعلامية يجر صاحبه إلى الاعتقاد بأن الواقع “الملموس والمحسوس” هو الحقيقة  بينما الواقع انعكاس لحقائق أخرى كامنة في عالم المجرد (أو عالم القيمة في نظرية الحتمية القيمية في الإعلام). وفي البداية كانت الكلمة (أي المعنى) ، أما الانسان فأداه تجسيد القيمة، وقد يتعلق بها أو يحيد عنها وفق ما ورد في الآية الكريمة: “ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قل أفلح من زكاها وقد خاب من دساها.” فالواقع قد يكون “مشوها” و قد يغطى الحقائق التي تحكمه أو تقيده أو توجهه أو تبعده عن المرجعية القيمية والأخلاقية ، فالواقع يقع في المستوى الثالث بعد العقل والروح،و لا نقول “عينك هي ميزانك” ولكن “روحك وعقلك هو ميزانك.” والكثير من الأبحاث الإعلامية الغربية أخذت بهذا النهج “الإمبريقي” وحولت الحقائق إلى بيانات إحصائية رقمية تنطق منها وبدون غيرها، وانتقل هذا النهج بشكل مشوه إلى المنطقة العربية والإسلامية بفعل “سهولته” و”سطحيته” وانفصامه عن التراث المعرفي النظري الذي يضع هذه الحقائق الجزئية في سياق أوسع من المعاني…و قد كان النهج الامبريقي هذا محل نقد في الغرب ذاته وظهرت على أنقاضه العديد من المناهج الكيفية ومنها الظاهرتية… فالخلل ليس في الواقع ولكن في الاكتفاء به دون غيره، وبتعبير آخر، فإن النزعة الإمبريقية ليست بريئة عندما تحتكم إلى الواقع “فقط”  وتقصي العوامل التي شكلتها بهذه الطريقة أو تلك. ….
 ألا ترون أن البحث العلمي في الإعلام والاتصال لا يزال يتسم بالتقليد والتبعية الفكرية للغرب؟
أرى أن هذا البحث تائها حاليا وليس تبعيا بالضرورة. فإذا ضاع المنطلق والاشكالات المعرفية الأساسية، أصبح البحث “العلمي” مجرد وسيلة متاحة لأغراض متعددة. ورغم أن هناك كما “معتبرا” من شبه الأبحاث الوظيفية التي تكدست في المنطقة عقودا من الزمن إلا أن أثرها محدود ولا يوجد هناك تراكم معرفي “حقيقي” بحيث لا يمكن لنا أن نتحدث عن معرفة أصيلة ذات مصداقية وتتحلى بالصرامة العلمية والمنهجية عن الإعلام وأدورها وأثاره في المنطقة ، والاستثناءات قليلة في هذه المجال…
 ارتبط اسمكم بالنظرية الحتمية القيمية كمقاربة جديدة للظاهرة الاتصالية والإعلامية. هل هي نظرية بديلة عن النظريات السائدة في العالمين العربي والإسلامي؟
نعم هي كذلك ولكنها لا تقصي النظريات الأخرى الغربية ولكنها تتفاعل معها إيجابا وتجادلها. والحقيقة أن درجة الاهتمام بنظرية الحتمية القيمية في الإعلام في المحيط الأكاديمي ووسائل الإعلام أصبح كبيرا جدا وآخرها دعوة أحد مراكز البحث في الأردن لطرح “ديبلوم خاص” في الفكر الإعلام القيمي انطلاقا من نظرية الحتمية القيمية في الإعلام. ولا شك أن حواري معكم يعرف قراءكم في المغرب  بهذه النظرية خاصة وأن النظرية تحمل بعدا مغاربيا ونشأت في بيئة مغاربية رغم أبعادها القيمية الانسانية والعالمية.  ولاشك أن قيام مجلة (Journalism Studies) بنشر دراستنا على “نظرية أسماء الله الحسنى للنورسي وأخلاق الإعلام” يدل على رقى النظرية من جهة وتفتح الآخر لهذا النوع من الطرح الجديد من جهة أخرى، إضافة إلى إشادة أب أخلاقيات الإعلام في أمريكا الأستاذ كريستنزكليفورد بالنظرية واعتباره إياها من النظريات الإعلامية الحديثة في المجال. والنظرية ما تزال تتطور ومن المؤلفات التي ستصدر قريبا إن شاء الله كتابنا بعنوان “أخلاق الإعلام” وفيه تناول فلسلفي ومعرفي وسعي لـتأسيس فلسفة أخلاقية قيمية متميزة ومتفاعلة مع النصوص التراثية والنظريات الأخلاقية الغربية والممارسة الإعلامية في المنطقة.
هل تشكل النظرية الحتمية القيمية قطيعة معرفية ومفاهيمية مع ما هو سائد في الحقل الاتصالي والإعلامي؟
نعم سواء تعلق الأمر بالطرح أو المفاهيم والأبعاد، إذ أنها تجعل من “القيمة” المحور الأساس الذي من خلاله يمكن تفسير او قياس المتغيرات الأخرى المحيطة، أي أن العوامل الأخرى وأساسها الإعلام يقاس بمدى قربه أو بعده عن القيمة، وذلك يختلف عن الحتميات الأخرى مثل الحتمية التقنية عند ماكلوهان والحتمية الاقتصادية عند ماركس والحتمية الاجتماعية عند أغطست كونت ودوركايم والحتمية البيولوجية عند لامبروزووالحتمية اللاشعورية عند فوريد، الخ…
 المتابع للأدبيات التي كتبت حول الإعلام والاتصال، يلاحظ أنها تركز على الوسائل. وهي متأثرة بمقولة ماكلوهان “الوسيلة هي الرسالة”. كيف تنظرون إلى العلاقة بين ثقافة المجتمع ووسائل الاتصال؟
ننظر إليها من حيث أولية الثقافي على التقني (التكنولوجيا) بمعنى أن الأصل أن تؤثر الثقافة على التكنولوجيا فتوجهها، أما إذا تصدرت التكنولوجيا المشهد على النحو الذي نشاهده الآن تحولت الثقافة إلي “مفعول به” وتحولت إلى مجموعة من المهارات والتقنيات وتحكم المجسد في المجرد وتعطلت بفعل ذلك الثقافة على حد قول مالك بن بني يرحمه الله.  وقد بينا في أكثر من دراسة  أن “الثقافة” ليست حالة أنثروبولوجيةيختلف مدلولها من سياق اجتماعي لآخر وفق نظرية النسبية الثقافية ولكنها، أي الثقافة” كيان يحمل مستويات يأتي على أعلى سلمها  القيمة  وأصلها المعتقد: “ذلك الدين القيمة،” ويكمن تسمية هذا المستوى مجازا بالعقل الأخلاقي، أما المستوى الثاني فيخص النشاط الذهني من تفكير وتأمل ومصدره العقل، ويمكن تسمية هذا المجال بدروه بالعقل المنطقي، أما المستوى الثالث فيخص ممارسات الثقافة، أي الفعل الاجتماعي “الملموس المحسوس” ومصدره الجوارح أو قل “سوسيولوجية” الحياة اليومية أو “فينومينولوجية” وفضاء لحياة الطبيعية.  وقد تكون هذه المستويات مترابطة في الحالة الصحية أو غير مترابطة في الحالة غير الصحية فندخل في مسائل الأساطير والطقوس والعادات التي تتحرك بدون المرجعيات المذكورة وتصبح حالات محلية لذاتها لا لغيرها وعلى هامش التاريخ.
 في إطار صككم لمجموعة من المفاهيم المرتبطة بالنظرية الحتمية القيمية، استعنتم بـ “المخيال الإعلامي” كبديل عن الرأي العام. ماهي المضامين التي تعطونها لهذا المفهوم الجديد؟
أما مفهوم “الرأي العام” فإن صاحبه “ولتر ليمبان” أنكر وجوده وقال أن الأمر لا يعدو أن يكون “صور في أذهاننا بفعل ما نتعرض إليه في وسائل الإعلام” خاصة وأن كل ما نعرفه عن العالم من حولنا لا يأتينا عن طريق التجربة الشخصية وإنما عن طريق وسائل الإعلام، أي أن الرأي العام أشبه، في نظره، بأسطورة معاصرة. والتعبير ليس له كيان مستقل على النحو الذي نلحظه في تعبير القبيلة أو الطبقة ، الخ وليس له ديمومة تاريخية بل يتم تشكليه ظرفيا وفق أهواء من سماهم العالم اللساني شومسكي بالمتلاعبين بالعقول في حديثه عن “فبركة الاجماع في المجتمعات الغربية بفعل “التضليل الممنهج” الذي تديره وسائل الإعلام الغربية في الأزمات والحروب.ولو سلمنا مجازا بوجود “رأي عام” بالمفهوم اللبرالي، فإن شروطه من وجود نقاش “حر وديمقراطي” يبدأ بالخلاف “الشديد” وتبادل الرؤى في جو مفتوح وينتهي بالاجتماع – غير موجودة حاليا في المنطقة العربية والإسلامية. أما تعبيرنا “المخيال الإعلامي” فقد عرفناه بأنه حالة ذهنية شعورية وغير شعورية تمتزج فيها العادات والأساطير والناتج الاجتماعي لحظة التعرض إلى صور رمزية من بيئات مختلفة تعرضها على المشاهد وسائل الإعلام المعاصرة، وهذا المخيال دائم التكوين والتغير وهو أقرب إلى ما يشهده جمهور وسائل الإعلام في المنطقة وما يحمل ذلك من تناقضات بنيوية بين المحلي والعالمي والديني والدنيوي والأخلاقي وغير الأخلاقي، والمجرد والمجسد، الخ
كيف تنظرون إلى إشكالية تأثير وسائل الإعلام على الفرد والمجتمع. وهل هو تأثير مباشر وخطي أم يخضع لمجموعة من العوامل؟
خاض الباحثون منذ لاسويلولازرسفليد في المجال عقودا من الزمن ولم يعد هناك جديد في الموضوعمن حيث التأثير المباشر (الرصاصة السحرية) أو غير المباشر (التدفق الإعلامي على مرحلتين) أو حسب الأفراد والجماعات والظروف والأزمنة، الخ. إنما يمكن القول أنه كلما كانت وسائل الإعلام وثيقة الصلة بالقيمة كان التأثير إيجابا والعكس، فلا توجد اعتباطية أو صدف في دراسة هذا البعد. فما كان مبنيا على حق كان له تأثيرا إيجابا والعكس، أي  ومثلما جاء في الآية الكريمة: “وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى،” و الآية “كل نفس بما كسبت رهينة.” ومال بعض الباحثين في الغرب إلى الابتعاد عن هذه الجدل “القديم الجديد” بالحديث عن “البعضية” من “البعض” فقالوا “أن بعض المحتويات في بعض وسائل الإعلام تؤثر على بعض الأفراد تحت بعض الظروف وفي بعض الفترات .”
 شهدت السنوات الأخيرة تطورا كبيرا لوسائل الاتصال حتى أصبح الإنسان خاصة فئة الشباب في ارتباط دائم بالانترنت سواء عن طريق الهاتف أو الحاسوب. هل يشكل اقتحام التقنية للحياة الاجتماعية تهديدا للعلاقات الاجتماعية؟
لاشك أن تكنولوجيا الاتصال الجديد ة والشخصية قد أوجدت جيلا جديدا “مجهولا” إلى حد ما وفي طور التكوين. وساهمت تكنولوجيا الحاسب في موت “الأيديولوجيات التقليدية” القائمة على الاحتكار والتضليل وأدت من جانب آخر إلى ميلاد جماعات افتراضية متشعبة  من الثقافات الفرعية دون “تأطير” أو حارس بوابة” إلى حد كبير…  إن دراسة تأثيرالإنترنت على الشباب لا يتم في منظورنا من دون مرجعية تربط المحتويات بالقيم، فإن كانت استخدام الشبكة ذا صلة أو قريب أو غير متناقض مع القيم كان التأثير إيجابيا و العكس. وعلى هذا الأساس فإن السؤال  الذي يتعين طرحه ليس الشبكة في حد ذاتها ولكن حسن استخدامها من سوئه. ويمكن القول أن الإعلام الجديد ممثلا في الإنترنت والإعلام الاجتماعي سلاح ذو حدين، أي أن هناك سالب وموجب…أما السالب فيشمل الإحساس بالعزلة، إضعاف مهارات الاتصال الشخصي و من ثم تفكيك نسيج الاتصال الاجتماعيوالعلاقات والوظائف والمسؤوليات الاجتماعية إضافة إلى التأثير “السلبي” على الصحة النفسية والجسدية كالقلق و ضعف البصر، الخ. وتعتبر نظرية الحتمية القيمية في الإعلام أن سوء استخدام الإنترنت (المضمون)  يؤدي إلى إهدار القيم أو تحييدها، وإضعاف الحساسيةتجاه “الممنوعات الثقافية.”يضاف إلى ذلك إرباك دور قادة الرأي و الفكر وتقمص أدوار النجوم “الجديدة” الشبكة و التهرب والإفلات من الواقع الاجتماعي بوصف ذلك تعويضا غير حقيقي لعلاقات اجتماعية مفقودة وذلك ما يلاحظ في كثرة الدردشة على الإنترنت. ويؤدي سوء استخدام الانترنت أيضا إلى منع الفرد من تغيير ذاتهوتنمية النزعة الاستهلاكية و المزج بين الحقيقي و الرمزي وتقليص المحلي وتوسيع العالمي. والأمر ليس كلها سالبا، ويشكل الجانب الآخر من المعادلة، أي الموجب، توسيع دائرة الاستفادة من الثقافة و العلوم وتنمية  الإحساس بأن الفرد جزء من العالم، أي أن ذلك يحدث الوعي بالعالم الخارجي ويوسع المحيط . وقد يؤدي حسن استخدام الشبكة إلى تعزيز القيم من خلال  المواقع ذات الطبيعة الثقافية و العلمية و الفنية و الدينية، إضافة إلى تنمية  المهارات الاجتماعية رمزيا. ويدخل في ذلك النظر إلى الذات و المجتمع من زاوية خارجية نقدية و معايشة عوالم متعددة تحمل الإنسان في الزمان و المكان، و قد يحقق هذا التعلق بالشبكة  الإشباع و الترفيه كما أنه يعلب دور التحويل عندما يلجأ الفرد إلى الشبكة للتنفيس عن قلق نفسي أو نزعات عدوانية إضافة إلى الأدوار الإعلامية التقليدية من توفير الإعلام والتفسير والتحليل للأحداث في شتى المجالات. ويلعب رصيد المتلقي (الجمهور) من الوعي الأخلاقي “الدور الحاسم” في قلب المعادلة نحو “الموجب.” والحاصل أن تأسيس الوعي الأخلاقي أو قل “العقل الأخلاقي” عملية مركبة وليست في متناول أي فرد أو أي جماعة، إذ يحتاج هذا العقل إلى تكوين معرفي على درجة عالية من الدراسة والتجربة والتأمل الذاتي والاقتاد بحياة العلماء وأولياء الله الصالحين. وقد أظهر “الأخلاقيون” (ethicists) أنه كلما ارتقى الفرد بمستواه الثقافي والمعرفي طرح أسئلة أخلاقية، ويرى آخرون أمثال هاورد قاردنرفي حديثه عن العقل الأخلاقي  أن اتقان أي حرفة إتقانا صارما من نتاج العقل الأخلاقي. أما العالم جاك إيلول فيرى أن أعلى درجات الحرية يكمن في النقد الأخلاقي.  وقد بين كوهلبرغ، مؤسس علم النفس الأخلاقي، أن الوعي الأخلاقي يأتي بعد الانتقال من مرحلة السائد ثقافيا واجتماعيا إلى مرحلة ما بعد السائد عندما يتحول السائد إلى مجال تساؤلات أخلاقية…وبتعبير آخر ، فإن الفرد لا يقدر أن يحقق شيئا ذا قيمة في حياته بدون مرجعية قيمية أخلاقية، وشأن من يتحرك بدون مثل أخلاقية شأن سفينة بدون شراع،  ومن استطاع أن يجد نفسه في القيم لم تستوعبه أو تلهيه الأشياء الأخرى.

حاوره: زكرياء سحنون